كيف يتم كبس الزيتون: رحلة من الشجرة إلى الزيت الذهبي

تُعد عملية كبس الزيتون، أو استخلاص زيت الزيتون، من أقدم الصناعات الزراعية وأكثرها أهمية في تاريخ البشرية. إنها رحلة سحرية تبدأ من بساتين الزيتون المترامية الأطراف، مرورًا بتقنيات تقليدية وحديثة، لتصل بنا إلى الزيت الذهبي السائل الذي يُعدّ حجر الزاوية في المطبخ المتوسطي وأساسًا للصحة والجمال. يمثل كبس الزيتون فنًا وعلمًا في آن واحد، يمزج بين الخبرة المتوارثة عبر الأجيال والابتكارات التكنولوجية التي تضمن الحصول على أجود أنواع الزيت بأعلى جودة ممكنة.

المرحلة الأولى: حصاد الزيتون – فن الاختيار والتوقيت

لا تبدأ عملية كبس الزيتون في المعصرة، بل تبدأ في الحقل. فجودة الزيت النهائي تعتمد بشكل كبير على نوع الزيتون، درجة نضجه، وطريقة حصاده.

أ. أنواع الزيتون وخصائصه

تتنوع أصناف الزيتون المستخدمة في إنتاج الزيت، ولكل صنف خصائصه الفريدة التي تؤثر على طعم الزيت ولونه ورائحته. من أشهر هذه الأصناف:

الزيتون الأخضر: يتم حصاده قبل اكتمال نضجه، ويمتاز بزيت ذي نكهة قوية، مرارة واضحة، ورائحة عشبية منعشة. غالبًا ما يكون لونه أخضر فاتح إلى متوسط.
الزيتون الأسود (المُلوّن): يتم حصاده عندما يبدأ بالتحول من اللون الأخضر إلى اللون البنفسجي أو الأسود. يتميز زيت هذا النوع بنكهة أكثر اعتدالًا، ورائحة فاكهية، ولون يتراوح بين الأخضر المصفر والذهبي.
الزيتون المزيج: قد يتم حصاد مزيج من الزيتون في مراحل نضج مختلفة، مما ينتج عنه زيت ذو نكهة متوازنة.

ب. توقيت الحصاد: عامل حاسم للجودة

يُعدّ توقيت الحصاد من أهم العوامل التي تحدد جودة الزيت.

الحصاد المبكر: عندما يكون الزيتون أخضر اللون، يحتوي على نسبة عالية من المواد المضادة للأكسدة (البوليفينول) والمركبات العطرية، مما ينتج عنه زيت ذو نكهة قوية وفوائد صحية ممتازة. ومع ذلك، تكون نسبة استخلاص الزيت أقل.
الحصاد المتأخر: عندما يصبح الزيتون أسود اللون، تكون نسبة استخلاص الزيت أعلى، وتكون النكهة أكثر اعتدالًا وحلاوة، ولكن قد تنخفض نسبة البوليفينول.

ج. طرق الحصاد

تتعدد طرق حصاد الزيتون، ولكل طريقة مزاياها وعيوبها:

النزع اليدوي (التلّيص): وهي الطريقة التقليدية والأكثر رفقًا بالثمار. يقوم العمال بقطف الزيتون بيديهم أو باستخدام أدوات بسيطة. تضمن هذه الطريقة اختيار أفضل الثمار وتجنب إلحاق الضرر بها، مما يحافظ على جودتها.
الهز (السّبّاطة): يتم استخدام عصي طويلة لهز أغصان الشجر لإسقاط الزيتون على شبكات أو أقمشة ممدودة أسفل الشجرة. هذه الطريقة أسرع وتغطي مساحات أكبر، ولكنها قد تؤدي إلى تلف بعض الثمار أو اختلاطها بأوراق وأغصان.
الاهتزاز الميكانيكي: تستخدم آلات خاصة لاهتزاز جذع الشجرة أو أغصانها، مما يؤدي إلى سقوط الزيتون. هذه الطريقة فعالة جدًا للمزارع الكبيرة، لكنها تتطلب حرصًا لتجنب إلحاق الضرر بالأشجار.

بعد الحصاد، يجب نقل الزيتون إلى المعصرة في أسرع وقت ممكن (يفضل في غضون 24 ساعة) لتجنب تخمّره أو تلفه، والذي يؤثر سلبًا على جودة الزيت.

المرحلة الثانية: تجهيز الزيتون للمعصرة – التنظيف والغسيل

قبل البدء بعملية الاستخلاص، يخضع الزيتون لعدة خطوات تجهيزية لضمان نقاء الزيت الناتج.

أ. التنظيف وإزالة الشوائب

تُعدّ هذه الخطوة ضرورية للتخلص من أي مواد غريبة قد تكون التصقت بالزيتون أثناء الحصاد، مثل الأوراق، الأغصان، الأتربة، أو الحشرات. تتم هذه العملية عادة باستخدام آلات نفخ أو غربلة ميكانيكية تقوم بفصل الزيتون عن الشوائب الأخف وزنًا.

ب. الغسيل

بعد التنظيف الأولي، يُغسل الزيتون جيدًا بالماء النظيف لإزالة أي بقايا عالقة. يجب أن يكون الغسيل لطيفًا لتجنب إتلاف قشرة الثمرة، وأن يتم بسرعة لتجنب امتصاص الماء الزائد الذي قد يؤثر على جودة الزيت.

المرحلة الثالثة: عملية الاستخلاص – قلب العملية النابض

هنا تبدأ الرحلة الحقيقية للزيتون نحو التحول إلى زيت. شهدت هذه المرحلة تطورات هائلة عبر التاريخ، من الطرق البدائية إلى التقنيات المتقدمة.

أ. الطرق التقليدية لاستخلاص الزيت

العصر الحجري (المعاصر الحجرية): كانت هذه هي الطريقة السائدة لآلاف السنين. تتضمن طحن الزيتون بالكامل (ثمرة، نواة، وأوراق) باستخدام حجارة ثقيلة مدورة تدور داخل حوض حجري. ينتج عن الطحن عجينة زيتونية تُوضع بعد ذلك في أكياس من الألياف الطبيعية (مثل القش أو شعر الحيوانات) وتُعصر تحت ضغط باستخدام مكابس خشبية أو حجرية. يتم تجميع الزيت والماء والشوائب، ثم يُفصل الزيت عن طريق الترسب الطبيعي أو الطفو. هذه الطريقة بطيئة، وتتطلب جهدًا كبيرًا، وقد لا تستخلص كل كمية الزيت المتاحة.
المكابس اللولبية: تطورت الطرق التقليدية لتشمل المكابس اللولبية التي تعتمد على برغي كبير يدور لزيادة الضغط على عجينة الزيتون. كانت هذه المكابس أكثر كفاءة من العصر الحجري، لكنها لا تزال تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين.

ب. الطرق الحديثة لاستخلاص الزيت: ثورة التكنولوجيا

شهدت العقود الأخيرة ثورة حقيقية في تقنيات استخلاص زيت الزيتون، مما أدى إلى زيادة الكفاءة، تحسين الجودة، والحفاظ على الخصائص الغذائية والفيزيائية للزيت.

نظام الدرفلة (الطحن): في المعاصر الحديثة، يتم طحن الزيتون (بدون نواة في بعض الأحيان، أو معها) باستخدام مطاحن آلية ذات شفرات أو ديسكات دوارة. الهدف هو تكسير خلايا الزيتون وإطلاق الزيت المحبوس داخلها، وتكوين عجينة زيتونية متجانسة. يمكن التحكم في درجة حرارة الطحن، وهو أمر حيوي للحفاظ على جودة الزيت.

الخَلط (التَقلِيب): بعد الطحن، تُوضع العجينة الزيتونية في خلاطات خاصة (تُسمى “الخلاطات” أو “المُقَلِّبات”) حيث تُخْلَط ببطء في درجة حرارة مُتحكّم بها (عادة بين 25-30 درجة مئوية للزيت البكر الممتاز). تساعد عملية الخلط على تجميع قطرات الزيت الصغيرة لتكوين قطرات أكبر يمكن استخلاصها بسهولة. المدة ودرجة الحرارة لهما تأثير كبير على جودة الزيت؛ فدرجات الحرارة المرتفعة قد تزيد من كمية الزيت المستخلص، لكنها تؤثر سلبًا على النكهة والخصائص الغذائية.

فصل الزيت (الطرد المركزي): هذه هي الخطوة الحاسمة في المعاصر الحديثة. تُستخدم أجهزة طرد مركزي أفقية (ديكانتر) أو رأسية لفصل المكونات الثلاثة الرئيسية للعجينة الزيتونية:
1. الزيت: وهو المكون الأخف وزنًا.
2. ماء الزيتون (المَرج): وهو السائل الناتج عن عملية الاستخلاص.
3. المواد الصلبة: وتشمل بقايا الثمار، الأوراق، والنوى (المُفْطَس).

يقوم جهاز الطرد المركزي بتدوير العجينة بسرعة عالية، مما يؤدي إلى فصلها بناءً على كثافتها. يتم سحب الزيت بشكل مستمر، بينما تُفصل بقية المكونات.

الفصل النهائي (الترشيح): بعد الطرد المركزي، قد يحتوي الزيت على بقايا دقيقة من الماء أو المواد الصلبة. لذا، يتم تمريره عبر مرشحات (فلاتر) ميكانيكية (مثل فلاتر الألياف أو الأقراص) لإزالة هذه البقايا وضمان الحصول على زيت صافٍ ومستقر.

ج. أنواع المعاصر الحديثة

المعاصر ذات النظام المغلق (المغلقة): وهي الأكثر شيوعًا حاليًا. تتميز بأن جميع مراحل العملية تتم في بيئة مغلقة، مما يمنع تعرض الزيت للأكسجين والهواء، ويحافظ على نكهته وخصائصه. هذا النظام يقلل من احتمالية التلوث ويضمن أعلى مستويات النظافة.
المعاصر ذات النظام المفتوح: أقل شيوعًا، وتسمح ببعض التعرض للهواء.

المرحلة الرابعة: التخزين والتعبئة – الحفاظ على كنوز الطبيعة

بعد الانتهاء من عملية الاستخلاص، تأتي مرحلة هامة جدًا وهي تخزين الزيت وتعبئته لضمان الحفاظ على جودته لأطول فترة ممكنة.

أ. ظروف التخزين المثلى

يعتبر الزيتون حساسًا للعوامل البيئية التي يمكن أن تؤثر على جودته. لذلك، يجب تخزينه في ظروف مثالية:

البرودة: يجب تخزين الزيت في مكان بارد، حيث أن درجات الحرارة المرتفعة تسرّع من أكسدة الزيت وتدهور نكهته.
الظلام: الضوء، وخاصة ضوء الشمس المباشر، يُعدّ عدوًا لزيت الزيتون. يسبب الضوء تفاعلات كيميائية تكسر الروابط الدهنية وتؤدي إلى فقدان النكهة والخصائص المفيدة.
الابتعاد عن الهواء: الأكسجين هو عامل رئيسي في أكسدة الزيت. لذلك، يجب أن يكون الزيت مخزنًا في عبوات محكمة الإغلاق.

ب. أنواع العبوات

عبوات زجاجية داكنة: مثل الزجاج الأخضر أو البني، توفر حماية جيدة من الضوء.
عبوات معدنية (صفيح): وهي ممتازة للحماية من الضوء والهواء، خاصة عند تخزين كميات كبيرة.
عبوات بلاستيكية (PET): تُستخدم غالبًا للعبوات الصغيرة أو للاستهلاك السريع، ولكنها قد تسمح بنفاذ بعض الأكسجين مع مرور الوقت.

ج. التعبئة

تتم عملية التعبئة في بيئة نظيفة ومعقمة لضمان عدم تلوث الزيت. يتم ملء العبوات بعناية، مع الحرص على تقليل تعرض الزيت للهواء قدر الإمكان.

الخلاصة: فن وعلم يتوجان بجوهر الطبيعة

إن عملية كبس الزيتون هي مزيج فريد من التقاليد العريقة والابتكار العلمي. من اختيار أفضل الثمار في وقتها، مرورًا بتقنيات الاستخلاص الدقيقة، وصولًا إلى التخزين والتعبئة المثلى، كل خطوة تلعب دورًا حاسمًا في إنتاج زيت زيتون عالي الجودة. هذا الزيت الذهبي ليس مجرد مكون أساسي في موائدنا، بل هو رمز للصحة، والنكهة الأصيلة، وإرث ثقافي غني ومتجدد.